مشروع قسد ومحدودية الخيارات في شرق الفرات

منذ تأسيس قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة والذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، عملت قسد على إظهار مشروعها القومي، بمظهر المشروع الديمقراطي الوطني، النابذ للديكتاتوريات، والمطالب بحقوق كافة المكونات.
مشروع قسد لاقى تأييدا واسعاً في الأوساط الغربية والأمريكية، باعتبارها قوات ذات طابع علماني وتشارك التحالف الدولي في قتال تنظيم الدولة، الذي شغل الأوساط السياسية والعسكرية في أوروبا، ودفعها لتشكيل تحالف لمواجهته في سوريا والعراق، خشيةً من تسربه إلى دول أخرى قد تفضي به إلى عمق أوروبا.
ومع الزخم الإعلامي الذي رافق عمليات محاربة تنظيم الدولة ودحره عن مناطق سيطرته، برزت قوات سوريا الديمقراطية كمقاتل شرس للتنظيمات المتطرفة، وشريك قوي للأوروبيين الذين رأوا في مشروع الإدارة الذاتية أنموذجاً يحتذى به، من حيث شكل الحكم الذاتي، وإشراك المرأة في العملية السياسية، وغيرها الكثير من البروباغندا التي تعمدت قسد إظهارها أمام الأوروبيين.
وبعد التمدد الذي شهدته قوات سوريا الديمقراطية شرقي الفرات، وسيطرتها على مناطق شاسعة فضلاً عن احتلالها لعدد من القرى العربية التي لم تشهد من قبل أي وجود كردي، اصطدم المشروع القسدي بقوى الثورة والمعارضة السورية، التي اتهمتها باحتلال قرى عربية لتنفيذ أجندتها الانفصالية عن سوريا، وهو ما كان بمثابة ورقة طلاق بين الطرفين، أودت بهم إلى مواجهات واصطفافات إقليمية.
استغل الأتراك حالة العداء بين قوات سوريا الديمقراطية وفصائل المعارضة السورية ، وعمدوا إلى دعم الأخيرة في وضع حد للأطماع الكردية وإبعادها عن المناطق الشمالية المتاخمة للحدود السورية التركية، فكانت أول عملية عسكرية تركية مع فصائل المعارضة السورية لانتزاع مدينة عفرين ذات المكانة العميقة في قلوب الأكراد، بدايةً لصراع تلاه عدة عمليات عسكرية أخرى، أفضت لقضم مناطق كانت تحت سيطرة الأكراد، وأثرت بشكل كبير على مشروع سوريا الديمقراطية، بحيث أجبرها على الانتقال من التحالف مع الأمريكيين فقط، إلى حالة من التيه الإقليمي بين عدة قوى كبرى متواجدة على الأراضي السورية.
خيارات قسد أمام التهديدات التركية
واجهت قوات سوريا الديمقراطية منذ مطلع تشرين الأول الجاري، موجة من التهديدات التركية الغاضبة، التي تتوعد بالقضاء على الوجود الكردي في المناطق المجاورة للنفوذ التركي، وذلك على خلفية تصعيد عسكري غامرت قسد وافتعلته داخل مناطق النفوذ التركي، وأسفر عن مقتل عدد من الجنود الأتراك.
وحملت التصريحات الأخيرة التي قالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤشرات توحي بعزم أنقرة على شن عملية عسكرية جديدة وذلك بسبب عدم استقرار مناطق نفوذها، ومقتل عدد من جنودها باستهدافات مباشرة من قسد، وتعرض ولاياتها الحدودية للاستهداف المباشر، وسط صمت وتهاون دولي في التعامل مع ملف قسد التي تعتبرها أنقرة منظمة إرهابية.
فيما عززت تصريحات وزير الدفاع التركي "خلوصي أكار" الذي قال إن بلاده ستقوم باللازم في المكان والزمان المناسبين لوقف الهجمات الإرهابية في شمال سوريا، نية أنقرة الإقدام على العملية العسكرية انسجاماً مع مصالحها وكردة فعل تجاه التقاعس والتهاون الدولي.
تلاها اجتماعات كثيفة شهدتها العاصمة التركية أنقرة، بين قادة عسكريين في فصائل المعارضة السورية، وضباط من الجيش التركي والاستخبارات العامة، وذلك بهدف التحضير لعمل عسكري ضد مناطق قسد.
ووفقاً لوسائل إعلام تركية فإن قادة الجيش التركي، أطلعوا قادة الجيش الوطني السوري على خطط تنسيق الجبهة الأمامية والاستراتيجية التكتيكية للعملية التي سيتم تنفيذها، وتم تحديد مواقع وأعداد الجنود الذين سيخدمون في جبهات تل رفعت ومنبج وعين عيسى وتل تمر، مضيفةً أنه سيتم نشر جنود ذوي خبرة من الجيش الوطني السوري في عدة مناطق تسيطر عليها قسد، ممن شاركوا في وقتٍ سابق في عمليات غصن الزيتون ودرع الفرات ونبع السلام كما ستدعم وحدات الجيش التركي الخاصة، التي تخدم في العراق وسوريا بمقاتلين من الجيش الوطني.
وأشارت إلى أن الجهات التركية قامت بتحديد الأنفاق والمراكز اللوجستية ونقاط النقل وأنظمة الاتصالات الموجودة في تل رفعت ومنبج وعين عيسى، وعدد من المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة قسد، مضيفةً أن القادة الأتراك ناقشوا مع قادة في الجيش الوطني السوري ملف مدينة عين العرب التي من المحتمل أن تكون ضمن دائرة الأهداف التركية في العملية المزمع القيام بها.
خطوات قابلتها قسد بإيقاف منح الإجازات لعناصرها الموجودين على خطوط التماس مع مناطق نبع السلام الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني السوري المدعوم من أنقرة في ريفي الرقة والحسكة شمال شرقي سوريا، وإبلاغ العناصر الممنوحين في وقت سابق إجازات روتينية،  بضرورة الالتحاق بالقطاعات العسكرية التابعين لها خلال مدة أقصاها 24 ساعة  وبالأخص الذين تقع قطعاتهم العسكرية على خطوط التماس مع الجيش الوطني السوري، فضلاً عن حملات تجنيد قامت بها في أرياف الرقة ودير الزور لرفد ترسانتها العسكرية بالعنصر البشري الذي يبدو أن قسد تعاني من على طول امتداد خطوط التماس مع المعارضة.
وعلى الرغم من التطمينات الأمريكية للأكراد إلا أن الإدارة الذاتية وضعت في الحسبان تكرار السيناريو الأفغاني في شمالي وشرقي سوريا، مادفعها لمراجعة حساباتها مع الروس الذين باتوا يملكون تياراً قوياً داخل دائرة القرار القسدية، والذين يرون في موسكو أهون الشرين، أمام الغزو التركي وانتقام فصائل المعارضة السورية.
وما عزز من سطوة التيار الموالي للتفاوض مع موسكو، اللقاءات الأخيرة التي جمعت وفد الإدارة الذاتية بمسؤولين أمريكيين، أبلغوا الإدارة فيها أنهم لن ينسحبوا من سوريا في الوقت الحالي، إلا أنهم أبلغوا مسد صراحةً بوجوب التفاهم مع الروس وإيجاد حل مع النظام السوري، بسبب تغير السياسة الأمريكية التي باتت ترى أن هناك أولويات ومخاطر أكبر من الصراع السوري تتمثل في القوة الصاعدة للصين.
التغير الأمريكي الذي طرأ على السياسة الأمريكية أعطى الروس جرعة زائدة من الغرور، جعلتهم في موقف المتحكم بمفاصل الحل في سوريا، حيث أعاد الروس اقتراحات التوسط بين الإدارة الذاتية ودمشق للتوصل إلى حل يجنب الأكراد مخاطر عملية عسكرية تركية، قد تفضي بهم إلى خسائر فادحة وثورات عربية في مناطق سيطرتهم قد تذهب بالمشروع القسدي إلى الهاوية.
ووفقاً لمقربين من الإدارة الذاتية فإن التيار الموالي لموسكو بدأ بشكل جدي بالتحرك والتنسيق مع روسيا، للوصول إلى حل على الطريقة الروسية، بعد معرفتهم بالانسحاب الحتمي للولايات المتحدة الأمريكية ولو بعد حين، وتمثلت التحركات الأخيرة بتحدي العشائر العربية التي منعت الدوريات الروسية من التوجه إلى الرقة عبر البلدات والقرى العربية، حيث رافقت قوات من التيار الموالي لموسكو في قسد، الدوريات الروسية وسمحت لها بالدخول عبر القرى العربية التي طردت منها قبل أيام.
ولعل ماحصل سيجعل من العشائر العربية تعيد النظر في حساباتها وتحالفاتها مع التيار القسدي الموالي للأمريكين والذي بات في موقف الضعيف بعد القرارات الأمريكية الأخيرة، وسط سعي من الروس والنظام السوري لكسب ود العشائر العربية وضم أبناء العشائر إلى صفوف الميليشيات الرديفة لجيش النظام السوري.
وبحسب المصادر فإن الحل الروسي في شمال وشرق سوريا قد يكون مشابه تماماً للحل في مدينة درعا، والذي أفضى إلى إنهاء الفصائل العسكرية، ودمجها ضمن صفوف الفيلق الخامس المدعوم روسياً، ثم استخدامها في قتال فصائل المعارضة، وصولاً إلى الاستسلام التدريجي المأمول، والذي يفضي إلى سيطرة كاملة للنظام السوري، كما حصل مع اللواء الثامن في محافظة درعا.
ورقة حل بين الإدارة الذاتية والنظام السوري
بالتزامن مع التصعيد السياسي والعسكري، وانحسار خيارات قسد في شمال شرقي سوريا، كشفت صحيفة موالية، اليوم الخميس، عن ورقة لحل الخلافات الموجودة بين الإدارة الذاتية والنظام السوري بهدف التنسيق المشترك لصد أي هجوم تركي باتجاه مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
ونقلت صحيفة "الوطن" الموالية عن رئيس المبادرة الوطنية للأكراد السوريين، عمر أوسي قوله إن "الورقة تتضمن عدة بنود، حيث تعتبر القضية الكردية قضية وطنية سورية بامتياز وحلها في دمشق وليس في أي عاصمة أخرى، وهذا الحل الوطني يأتي على أساس الإقرار بالحقوق المشروعة للكرد السوريين، وبضمانات دستورية في إطار وحدة وسيادة الجغرافية الوطنية السورية".
وأضاف أن الورقة تشير إلى اعتماد النظام اللامركزي في حكم البلاد، كما تتضمن ضرورة تطبيق قانون الإدارة المحلية رقم 107، مؤكداً أنه بالإمكان مقاربة قانون الإدارة المحلية بقانون لإدارة الذاتية المعمول به، مضيفاً أنها "تتضمن تنمية مناطق شرق الفرات والجزيرة السورية في إطار الإنماء المتوازن وعودة مؤسسات الدولة السورية السياسية والعسكرية والأمنية والإدارية إلى كل المناطق التي هي خارج سيطرة النظام في منطقة الفرات والجزيرة السورية والمناطق الأخرى".
ودعت الورقة إلى بدء حوار جدي وفوري ووطني سوري بين الأطراف الكردية والنظام السوري، مبينةً أنها تحمل طابعاً وطنياً وأنها قابلة للتفاوض والتعديل، وأكد أوسي أنه جرى تقديمها إلى الإدارة الذاتية ومسؤولي النظام لدراستها.
ومن خلال النظر إلى الورقة المُقدمة في الوقت الحالي، الذي تشهد فيه قسد أسوأ مراحلها السياسية والعسكرية المتمثلة باقتراب الانسحاب الأمريكي وتصاعد التهديد التركي، يبدو أن قسد ستكون مضطرة لتقديم تنازلات كبيرة للروس الذين لا تختلف رؤيتهم عن مضمون الورقة المقدمة، والتي ستفضي نهاية الأمر إلى عودة مناطق قسد إلى حضن النظام السوري، الذي لن يتوانى عن قتل المشروع الكردي والإدارة الذاتية، خدمة لرؤيته المتمثلة بأنه الحاكم الأوحد لسوريا، وأن لا صوت يعلو على صوت بنادقه.

ذات صلة