عندما أُسس «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» في سوريا أواخر عام 2012؛ أي قبل 8 سنوات، كان حلم السوريين وأصدقائهم توليد جسم سياسي، يتجاوز مشكلات وعثرات جسم المعارضة والثورة القائم «المجلس الوطني السوري»، التي تفاقمت مرات عدة في العام الأول من عمره، وفتحت محاولات علاجها الأبواب على مشكلات صارت عصية على الحل، فلم يعد هناك بد من حله، والذهاب إلى تجربة جديدة، خمن كثير من السوريين وأصدقائهم، أن «الائتلاف» سيكون تعبيرها المطلوب، وهو أمر جعل الفعاليات الرئيسية في تجربة «المجلس الوطني»، حتى وإن مانع بعضهم لبعض الوقت، قبلت الانتقال إلى التجربة الجديدة.
وما حدث عملياً أن تلك الفعاليات وبعضاً من الوافدين الجدد، ووسط البيئة المشتركة لتشكيل كل من «المجلس الوطني» و«الائتلاف»، نقلت أمراضها ومشكلاتها معها وصراعاتها من التجربة الأولى إلى الثانية، ثم أضافت إليها مشكلات جديدة، نجمت عن التطورات التنظيمية والسياسية، التي أحاطت بـ«الائتلاف» من جهة؛ والقضية السورية من الجهة الأخرى، مما جعل «الائتلاف» يتحول إلى صورة باهتة، وهيكل عاجز عن القيام بدوره في خدمة القضية السورية، قبل أن يتحول إلى موضوع للنقد السوري الجارح، ليس من النظام وخصوم الثورة والمعارضة؛ بل من عموم السوريين، وهي حالة آخذة في الاتساع، خصوصاً بعد ما جرى القيام به من تبادل مواقع المسؤولية بين رئيس «الائتلاف» أنس العبدة، ورئيس «الهيئة العليا للمفاوضات» نصر الحريري، ليحل كل منهما مكان الآخر، وكأن جسدي المعارضة عاجزان عن انتخاب رئيس لكل منهما.
ولا يشكل خطأ هذه المناقلة سوى تعبير عن عجائب سياسية وتنظيمية، كرّسها «الائتلاف» في واقعه وسياساته، وصارت البيئة الحاكمة في كل ما يصدر عنه من قرارات، وما يقوم به من خطوات وإجراءات، حتى لو كان لبعضها طابع إصلاحي أو مجدد، فإنها تفرَّغ من هذا الطابع، إضافة إلى أن السوريين لم يعودوا يتوقعون إلا السوء والرداءة في مواقف وسياسات «الائتلاف» وشخصياته الرئيسية استناداً إلى سقطات ست، ربما كانت هي الأهم، وقد تكرست في واقع «الائتلاف»...
أولى سقطات الائتلاف؛ أن غالبية المشاركين فيه من جماعات وأحزاب وشخصيات، يرونه وسيلة لتحسين مكانتهم والحصول على مكاسب؛ سواء لجماعاتهم وأحزابهم، ولأنفسهم، بدل أن ينظروا إليه بوصفه قوة جامعة، تنظم وتقود السوريين، وتجعل المشاركين فيه أداة طليعية للنضال من أجل تحقيق أهداف السوريين في السلام وإقامة نظام بديل لنظام الأسد، يوفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين، ويعالج ما خلفته الحرب من كوارث عليهم، ويعيد بناء بلدهم ومستقبلهم.
وثاني سقطات «الائتلاف» مخالفة أكثر مكوناته من التنظيمات والشخصيات قيم ومبادئ الثورة، التي أطلقها السوريون، وضحى ملايين من أجلها، وكان من أهمها سلمية الثورة وعموميتها، ورفضها التشدد والتطرف، وتأكيد وحدة الشعب السوري، وكلها قيم ومبادئ جرى تجاوزها بصورة عملية، وجرى إحلال نقائضها بدلاً منها، كما في عسكرة الثورة وأسلمتها وتطييفها، وتقسيم السوريين إلى مكونات «ما قبل الجماعة الوطنية»، والتعامل معهم على هذا الأساس، وتبني شعارات وسياسات تأييد معلن لإخوة المنهج؛ شاملة «جبهة النصرة» بأسمائها اللاحقة، وإبراز تعاطف ضمني مع «داعش»، مقروناً بسعي بعض «الائتلافيين» للظهور بمظهر «الدواعش» في القول والشكل.
وثالث السقطات، موقف «الائتلاف» من النساء؛ خصوصاً في خفض مستوى مشاركتهن في عضويته ورسم سياساته وتنفيذها، رغم كل المساعي والمحاولات التي بُذلت طوال سنوات لتعزيز حضور النساء ودورهن في «الائتلاف». وبخلاف أن السوريات حملن عبئاً أساسياً في الثورة، وفي مواجهة ما ترتب عليها من نتائج، جعلت كثيرات يتحملن مسؤوليات اجتماعية وأسرية؛ بينها إعالة عائلات، خصوصاً من فقدت عائلها، وتولين تربية الأبناء وتعليمهم، فإن تمثيل النساء في «الائتلاف» يقل عن 9 في المائة، حيث يبلغ عدد أعضاء الائتلاف من النساء 8 من إجمالي عدد الأعضاء البالغ 92 عضواً.
سقطة «الائتلاف» الرابعة، كانت في فشل مؤسساته وفسادها، وهي ظاهرة بدأت مع تأسيس «الائتلاف» عام 2012، امتداداً لما كانت عليه حال «المجلس الوطني»، وتصاعدت تالياً كما في النماذج الأولى من المؤسسات الملحقة؛ ومنها «وحدة تنسيق الدعم»، و«لجنة الحج العليا»، ثم «الحكومة السورية المؤقتة»، وتكررت النتائج في الهياكل التابعة مباشرة لـ«الائتلاف»؛ ومنها «المكتب الإعلامي» و«الدائرة القانونية»، وسفارات «الائتلاف» ومكاتبه في بلدان الشتات، وكل واحدة من تلك المؤسسات لها سيرة طويلة من الفشل ورداءة الأداء، ومستوى من الفساد الإداري والمالي، يحتاج إلى وقفة طويلة.
والسقطة الخامسة، تكمن في تسلط مجموعة من تنظيمات وشخصيات، يغلب عليها لون آيديولوجي وسياسي، يدور في فلك الإسلام السياسي والجهادي، أكدت تجربة المعارضة في السنوات العشر الماضية فشله، بل ومسؤوليته الأساسية عن فشل «المجلس الوطني» أولاً ثم «الائتلاف» وعموم جماعات المعارضة، بحكم الدور الذي مارسه «الائتلاف» في حروبه السرية والعلنية ضد قوى المعارضة الأخرى في وقت كان يفترض فيه أن يسعى من أجل وحدة المعارضة أو الوصول إلى توافقات بين أطرافها، تصب في مصلحة السوريين الذين يصر «الائتلاف» على أنه ممثلهم؛ إن لم يقل إنه «الممثل الوحيد».
وللحق؛ فإن مجموعة المتسلطين من جماعات وشخصيات، شكلت عصبة، استقرت على تفاهمات وشراكات، وإدارة عمليات تبادل المواقع والمنافع والامتيازات - رغم محدوديتها - وهي تسعى نحو تمددها ما أمكن، وبناء علاقات مصلحية مع أطراف وجهات، تتبادل وإياها المصالح.
والسقطة السادسة للائتلاف، تتمثل في فلتان سياسي وتنظيمي عند غالبية أعضائه، رغم وجود نصوص وقرارات تمنع تلك الحالات؛ بل وتحدد سبل محاسبة القائمين بها، لكن ذلك لا يمنع من استمرار الفلتان، لأن هناك من يحمي القائمين به، ويتجاوز عن سقطاتهم، أو يمنع محاسبتهم لسبب أو لآخر. وعلى سبيل المثال، فإن أي عضو في «الائتلاف» يمكن أن يدلي بتصريحات سياسية، ويعلن مواقف تتصادم مع سياسات ومواقف «الائتلاف»، ويمكن أن تسبب له أذيات سياسية وتنظيمية، كما يمكن لأي من أعضاء «الائتلاف» التغيب عن اجتماعات «الائتلاف»، على قلتها، لأشهر، وبالتأكيد؛ فإنه لا شيء يلزم عضو «الائتلاف» المشاركة في فعالياته ونشاطاته، وأكاد أجزم بأن بعض أعضاء «الائتلاف» لا تتعدى مشاركتهم فيه حضور بعض اجتماعاته.
سقطات الائتلاف السابقة، التي تبدو عجائب، جعلته خارج السياق المطلوب في التعبير عن السوريين وفي قيادة نضالهم ضد نظام الأسد ومن أجل تحقيق أهداف ثورتهم، وهذه بين أسباب جعلت أطرافاً دولية وإقليمية كثيرة تخفض مستوى اهتمامها؛ ليس فقط بـ«الائتلاف»، بل بالقضية السورية، وجعلت غالبية السوريين؛ بمن فيهم قوى وشخصيات كانت في «الائتلاف» أو قريبة منه، تبدل موقفها من سياساته وممارساته، التي باتت بحاجة لتطبيق المثل العربي المعروف: «آخر الطب الكَيّ»!
المصدر: الشرق الأوسط