شهدت مناطق شرقي سوريا، وجنوبها، سباقاً محموماً بين مختلف القوى الدولية المنتشرة فيها، وعلى رأسها روسيا وإيران حلفاء النظام السوري في حربه على السوريين، لتجنيد الشباب السوري في صفوف الميليشيات التابعة بشكل مباشر لهم أو المرتبطة بهم، ونشر القواعد العسكرية في مختلف المناطق السورية لإحكام السيطرة والنفوذ، على تلك المناطق التي باتت أشبه، بحلبة صراع دولي، تتداخل فيها مصالح القوى الدولية والإقليمية على سائر التراب السوري.
ولعل التحركات الدولية الأخيرة الرامية لإخراج الإيرانيين من سوريا، فضلاً عن الغارات الجوية المكثفة التي شهدتها مقار ومستودعات تابعة للحرس الثوري الإيراني، نبهت الإيرانيين إلى ضرورة الاعتماد على الحاضنة الشعبية في تعزيز ترسانتها العسكرية، ما دفعها لتوطيد علاقاتها مع السكان المحليين في المناطق التي تتواجد بها الميليشيات التابعة لها، وخصوصاً في مناطق شرقي سوريا، التي تشهد صراعاً دولياً بين أغلب القوى المنخرطة في الملف السوري، وذلك لحساسية المنطقة واحتوائها على أغلب ثروات سوريا الطبيعية، فضلاً عن وجود القوى العظمى المتمثلة بالروس والأمريكيين
تجنيد النساء وتشييعهن تكتيك جديد للإيرانيين
بعكس حملات التجنيد الاعتيادية التي تعمل الميليشيات الإيرانية على الترويج لها، عبر استقطاب فئات الشباب واليافعين ضمن صفوفها، من أبناء المدن والقرى في مناطق دير الزور، وخصوصاً تلك الواقعة على الحدود السورية-العراقية، اعتمدت الميليشيات الإيرانية في الآونة الأخيرة تكتيك جديد في التجنيد، يتضمن ضم عناصر من فئة النساء لميليشياتها لأغراض غير قتالية، إلا أنها تحمل بعداً آخر من أبعاد التغلغل المُخطط له في المنطقة.
مصادر مطلعة في ريف دير الزور أكدت لـ"وكالة المجس" أن ميليشيا الحرس الثوري الإيراني في مدينة البوكمال جنوبي دير الزور، أعلنت عن حاجتها لتطويع عدد من النساء في صفوفها للعمل بأعمال غير قتالية، مضيفةً أن "الحاج أبو سجاد" أحد مسؤولي منظمة الجهاد والبناء التابعة للحرس الثوري، أبلغ عدداً من العناصر وقادة الميليشيات، عن حاجة الحرس الثوري إلى تطويع نحو 25 سيدة لتعيينهم بمناصب غير قتالية منها الإشراف على الروضات المخصصة للأطفال ودورات التمريض بالإضافة إلى أعمال أخرى.
وأشارت المصادر إلى أن الحرس الثوري حدد رواتب تتراوح بين 250 إلى 300 ألف ليرة سورية كراتب شهري لكل سيدة تقبل الانضمام إلى صفوفه، وهو ما يعد من الرواتب العالية نسبياً إذا ما قورنت بتلك المقدمة لعناصر قوات النظام السوري، موضحةً أن الطلب لم يلقى قبولاً شعبياً حتى اللحظة على الرغم من الامتيازات والعائدات المالية المُقدمة للمنتسبات.
ولفتت المصادر أن إعلان التطويع الصادر عن الحرس الثوري، سبقه بأيام إعلان آخر عن رغبة الإيرانيين في توظيف عدد من السيدات ممن يحملن شهادة الإعدادي للعمل كمعلمات في المدارس والروضات التابعة لهم، فضلاً عن قيامه في وقتٍ سابق بعدة نشاطات تستهدف فئة النساء وهو مؤشر واضح على السعي الحثيث للإيرانيين في كسب ود العنصر النسائي في المدن والقرى التي تشهد انتشاراً إيرانياً كبيراً، عبر إقامة فعاليات احتفالية، ودورات تعليمية في عدة مجال أبرزها التمريض، مع تقديم وعود للناجحات بتأمين وظائف دائمة برواتب كبيرة، مقابل الانضمام لصفوف الميليشيا.
وأضافت المصادر أن الإجراءات الإيرانية المتبعة في البوكمال حالياً، سبق وأن تمت ممارستها في مدينة الميادين القريبة من البوكمال، حيث كلفت ميليشيا أبو الفضل العباس، في أيار الفائت، نحو 25 امرأة من نساء وعوائل عناصرها للتواصل مع الفتيات والنساء في الميادين وإقناعهن بالانتساب إلى كتيبة نسائية كانت ميليشيا أبو الفضل العباس قد شرعت في تشكيلها قبل فترة.
ماهي الكتيبة النسائية في الميادين؟
كتيبة تتبع بشكل مباشر للإيرانيين، ويعود فضل تشكيلها إلى ميليشيا لواء أبو الفضل العباس، التي أشرفت بشكل مباشر على الترويج وفتح مكاتب التجنيد لها، عن طريق إحدى النساء المقربات من عدنان السعود الزوزو، قائد أبو الفضل العباس في المدينة.
مصادر وكالة "المجس" أشارت إلى أن السيدة التي شكلت الكتيبة، تلقت أمراً مباشراً من قائد "أبو الفضل العباس" لتنفيذ هذه الخطوة، لتعقد فيما بعد سلسلة اجتماعات مع نساء مقربات من حزب البعث وبعض الميليشيات المقربة من النظام السوري لتنسيق العمل الموكل لهن.
وأردفت "وكان لهذه الكتيبة في بداية التشكيل مقر في مدينة الميادين، وفي الأشهر الأولى، من العام الجاري، توسع عملها لتفتح مقرات في حي الجورة بمدينة دير الزور وفي مدينة البوكمال الحدودية مع العراق، مشيرة إلى أن عدد النساء في الكتيبة يبلغ قرابة 60 امرأة، في ظل تكتم الكتيبة على النساء المنضمات حديثاً لها، مشيرةً في ذات الوقت أن أغلبهن يشغلن مناصب في دوائر النظام السوري الحكومية، وخاصة في دائرة نفوس دير الزور.
ولفتت أن الهدف الأساسي لتجنيد النساء يقوم على أعمال، تتعلق بالترويج للتواجد الإيراني في شرقي سوريا ونشر التشيع، فضلاً عن عملهن ضمن كشافة المهدي وبعض الجمعيات الإغاثية التي تعتمد في تمويلها على الجانب الإيراني.
ما هدف الإيرانيين من تجنيد النساء في صفوف الميليشيات
انتشرت خلال السنوات الفائتة، والتي شهدت معارك طاحنة بين فصائل المعارضة المسلحة من جهة، وقوات النظام والميليشيات الإيرانية من جهة أخرى، عدة تقارير إعلامية من مناطق الشرق السوري، والعاصمة دمشق وريفها، وأفادت بإقدام قياديين في الميليشيات الإيرانية ورجال دين شيعة على نشر الثقافة الإيرانية والتشيع بين أفراد المجتمع السوري.
إلا أن اللافت في عمليات التجنيد الأخيرة توجه ميليشيات الحرس الثوري إلى تجنيد النساء، لعدة أهداف سنقوم بذكرها:
1- مهام الكتيبة النسائية التي يعمل الإيرانيون على توسيعها تنحصر بمهام "استخباراتية بامتياز"، منها ملاحقة شبان المنطقة المطلوبين والإيقاع بهم عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيق واتساب، فضلاً عن توريط آخرين وإغرائهم بالانضمام للميليشيات الإيرانية.
2- مهام تتعلق بالتغلغل داخل المجتمع، واختراق النساء في المدن والقرى الخاضعة لسيطرة الميليشيات الإيرانية، عبر إقناعهن بضرورة التعاون مع الميليشيات الإيرانية للحصول على حوافز مادية ومعيشية، وتسجيلهن ضمن الأسماء المستحقة للمساعدات في الجمعيات ذات التمويل الإيراني، فضلاً عن حثهن على تجنيد أطفالهن في صفوف الكشافة التابعة للميليشيات والجمعيات الإيرانية.
3- مسؤولات الكتيبة يعملن في مركز "النور الساطع" الموجود في مدينة الميادين، ويعمل فيه النساء على توظيف أخريات من أجل استقطاب الأطفال للانضمام لهذا المركز، بحجة إقامة دورات ثقافية، تعتبر بمثابة دورات غسيل دماغ وتعليم المذهب الشيعي والأفكار الطائفية.
نشاط النساء في نشر التشييع
وإلى جانب المقرات الرسمية للكتيبة النسائية، تُشير المصادر إلى وجود نشاط للنساء المقربات من الميليشيات الإيرانية في منازلهن الواقعة في مناطق متفرقة في محافظة دير الزور، وبالأخص في مدينة الميادين، حيث عملت الميليشيات الإيرانية على تجنيد عدد من النساء لجعل بيوتهن مركزاً للتشيع، حيث تقام الندوات والمناسبات الشيعية الدينية، عبر دعوة نساء المدينة لحضورها، ترويجاً للميليشيات وأفكارها الشيعية، مستغلين الاحتقان الشعبي الذي خلفته ممارسات تنظيم الدولة، لبث فكر جديد مغاير تماماً لأفكار التنظيم.
وكانت مدينة الميادين قد شهدت، منذ مطلع عام 2020 عدة اجتماعات بين قادة من الحرس الثوري ووجهاء وشيوخ عشائر محافظة دير الزور، وارتبطت جميع العروض التي تلقاها الشيوخ بضرورة سعيهم لاستقطاب النسبة الأكبر من شبان المنطقة للعودة إلى مدنهم وقراهم، والانضمام إلى الميليشيات الإيرانية، فضلاً عن شراء الميليشيات ذمم عدد لا بأس به من شيوخ العشائر العربية لدعم نشاطات التشيع، وتوظيف عدد من نساء العشائر، ذوات التحصيل العلمي والخبرة في إدارة عمليات ترويج التشيع عبر إقامة ندوات نسائية وعشائرية في مراكز متخصصة أو ضمن المنازل لإقناع النساء بفكرة التشيع، وجلب أطفالهن للانضمام إلى النشاطات المقامة.
ويعود التركيز على مدينتي الميادين والبوكمال، كونهما تتمتعان بموقع استراتيجي بالقرب من الحدود السورية- العراقية، ومن جهة أخرى يعيش سكانهما ظروفا صعبة تعتبر بمثابة أرضية اجتماعية خصبة لتمدد النفوذ الإيراني وتحقيق أهدافه، سواء على الصعيد العسكري أو الاجتماعي.
وتوصف مدينة الميادين السورية بأنها عاصمة الميليشيات الإيرانية، ويطلق عليها هذا الاسم نظراً للعدد الكبير من الميليشيات التي تنشط فيها، والتي تتلقى دعما مباشراً من الحرس الثوري الإيراني، ولها مقار وقواعد عسكرية، وهو ما تؤكده عدة مصادر وتقارير محلية في المنطقة.
تجنيد للأطفال وابتزاز للأهالي
وفي تقريرٍ سابق في 18 كانون الثاني، كشفت مصادر أهلية لـ"وكالة المجس" عن مواصلة الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني في محافظة دير الزور، عمليات تجنيد الأطفال في صفوفها، مستغلةً الظروف المادية الصعبة التي تعيشها مناطق سيطرة النظام، من خلال إغرائهم بالمال والمساعدات الغذائية.
وأضاف التقرير أن ميليشيا "لواء الباقر" المدعومة إيرانياً، جندت منذ مطلع الأسبوع الجاري قرابة 70 طفلاً، ممن لم تتجاوز أعمارهم السادسة عشر، وأخضعتهم لدورات عسكرية تدريبة، تضمنت حمل السلاح والتدريب على الرمي من مسافات قريبة.
وبين أن الميليشيا، نقلت الأطفال فور تجنيدهم إلى معسكر سري تابع لها، في بلدة حطلة ذات الأغلبية الشيعية، موضحةً أن عمليات التدريب تتم بإشراف المدعو "سيد مهدي" أحد قيادي حزب الله اللبناني، بالإضافة إلى المدعو "منتصر الحسين" أبرز قياديي "لواء الباقر" والمنحدر من بلدة حطلة.
وأشار إلى أن الدورة العسكرية للأطفال، شملت تدريبات بدنية شاقة وتدريب حي لاستخدام جميع أنواع الأسلحة وخوض حرب الشوارع، وتنفيذ عمليات الاغتيال والتفجيرات، إضافةُ إلى دروس دينية في الفقه الشيعي.
ولفت إلى أن الميليشيا حولت أماكن التدريب، إلى معسكرات مغلقة، وأصدرت أوامراً بمنع الأهالي من زيارة أبنائهم، أو خروج الأطفال من المعسكر لمدة 25 يوماً.
وأردف أن الميليشيات، احتالت على بعض الأهالي، وأقنعتهم بتجنيد أطفالهم، بعد أن قدمت لهم وعوداً قبل بدء دورتهم التدريبية بأنهم سيخدمون كحرس للمقرات وعناصر على الحواجز الأمنية، مشيرةً إلى أن الأنباء الواردة تُشير إلى عزم الميليشيات زج الأطفال في معارك البادية المحتدمة بين النظام والميليشيات الموالية له من جهة، وتنظيم الدولة من جهة أخرى.
وأشار إلى ضلوع "نواف راغب البشير"، بعمليات التجنيد الأخيرة، حيث قام بالإشراف على عمليات توزيع المساعدات الغذائية والمالية، لذوي الأطفال ووعدهم بتقديم مساعدات أخرى لهم، تشمل وقود تدفئة وألبسة شتوية، مبينةً أن البشير التقى بهم في مقر لواء الباقر في البلدة ذاتها، في محاولة منه لتشجيع بقية الأسر، على إرسال أبناءهم لمعسكرات التجنيد التابعة لإيران في المنطقة، مستغلا الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشونها.
وأوضح أن الميليشيات الإيرانية، عملت على ابتزاز أهالي الأطفال الذين جندتهم في صفوفها، حيث طالبت بعض الأهالي الذين تطوع أطفالهم في صفوف الميليشيا بمبلغ 500 دولار أمريكي للسماح لهم بترك التطوع والعودة لمنازلهم، مشيرةً إلى أن العديد من الأطفال تطوعوا بصفوف الميليشيا دون علم أهاليهم، فضلاً عن آخرين لم يستطع أهلهم منعهم خوفاً من التعرض للاعتقال والمضايقات.
وفي وقتٍ سابق أقدم الحرس الثوري الإيراني، على تجنيد 80 طفلاً من مدينة البوكمال ونواحيها، وإخضاعهم لتدريب ضمن معسكر خاص بمنطقة "صكور" ببادية المدينة، حيث تم تدريبهم على جميع أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة.
التغلغل الإيراني شرق سوريا
بدء التوطين الشيعي في دير الزور
مع سيطرة قوات النظام بدعم روسي ومشاركة كبيرة من الميليشيات الإيرانية نهاية عام 2017، على مدينة دير الزور، بدأت الأطماع الإيرانية ببسط السيطرة الفكرية والعسكرية على المنطقة تطفو للسطح، حيث عملت إيران على تقوية نفوذها في مدينة دير الزور وجعلها موطئ قدم للميليشيات الشيعية ونشر أفكار التشيع.
ومما أسهم في تغذية الأطماع الإيرانية غياب الوجود العسكري الروسي عن الريف واقتصاره على مطار دير الزور العسكري وبعض أحياء المدينة، كحي الفيلات وغازي عياش، فيما تنتشر الميليشيات الإيرانية في معظم مدن وبلدات ريف دير الزور الشرقي وبشكل كبير على حساب قوات النظام السوري.
ومن أبرز مدن ريف دير الزور الشرقي التي تشهد انتشاراً كبيراً للميليشيات الإيرانية مدينة البوكمال الحدودية مع العراق، بالإضافة إلى مدينة الميادين التي تشهد عمليات تغيير ديمغرافي ممنهجة من قبل الجانب الإيراني وسط صمت ملحوظ من النظام السوري
توطين العائلات الشيعية في المدن السُنية
عملت الميليشيات الإيرانية منذ إحكام سيطرتها على قرى ومدن دير الزور على منع أهالي المناطق من العودة إلى ديارهم، واستبدالهم بعناصر عائلات المنتسبين لها، وتلفيق التهم للسكان الأصليين بالانضمام لفصائل المعارضة أو المشاركة في الثورة السورية لجعل عمليات المصادرة شرعية حسب منظورها.
وكانت الميليشيات الإيرانية عملت خلال الفترات السابقة على استقدام عوائل العناصر الأجانب الحاصلين على رتبة مساعد، وتجهيز شقق جديدة لهم ليقيموا فيها، وتوزعت الشقق في عدة أحياء داخل مدينة دير الزور، أبرزها حي العمال في مدينة البوكمال، وتقع في أبنية مجاورة لأبنية تم الاستيلاء عليها في وقت سابق وإعطائها لمقاتلين أفغان.
وفي حزيران الفائت استقدمت الميليشيات عوائل إلى حي العمال بحافلات كبيرة وبرفقتها عدد من الآليات التابعة للحرس الثوري والتي أمنت طريق العائلات من مدينة تدمر وحتى ودير الزور، حيث وصلت العائلات إلى سوريا عبر مطار دمشق الدولي قادمةً من إيران.
وفي آذار الفائت أقدم مكتب الأصدقاء التابع للحرس الثوري الإيراني بمدينة الميادين شرقي ديرالزور، على تبليغ سكان نحو خمسين منزلاً بضرورة إخلاء منازلهم خلال أسبوع، وتعود ملكية المنازل المصادرة لأشخاص كانوا ضمن صفوف الجيش الحر أو شاركوا بالثورة السورية وغادروا المدينة عقب احتلال الميليشيات الإيرانية لها، وأوكلوا لأقاربهم مهمة إدارة ممتلكاتهم خشية مصادرتها وتحويلها لمقرات.
وتقع غالبية المنازل التي جرى توجيه أوامر الإخلاء لها في محيط جامع الحسن في المدينة، حيث تم جلب عائلات مقاتلي الميليشيات الإيرانية لإسكانهم بهذه المنازل.
وفي كانون الثاني مطلع العام الجاري أقدم الحرس الثوري الإيراني، على إنشاء مقرات جديدة ضمن بساتين ومزارع ومنازل استولى عليها من أصحابها بمدينة البوكمال شرقي ديرالزور في إطار خطط الميليشيات الإيرانية على تبديل مواقعها فراراً من الغارات، ثم ما لبثت الميليشيات أن استقدمت بعض العوائل الشيعية العائدة لعناصرها لتسكينهم فيها.
حملات دعوية إيرانية لنشر المذهب الشيعي في دير الزور
بالتزامن مع عمليات التغيير الديمغرافي التي تنتهجها إيران، تعمل إيران بصورة نشطة للقيام بحملات دينية في مناطق غرب نهر الفرات في دير الزور، من أجل محاولة تحويل سكان تلك المناطق إلى المذهب الشيعي وضم أبنائها إلى ميليشياتها المنتشرة في أنحاء المحافظة.
وتسعى الحملات الدعوية الإيرانية إلى استغلال الوضع الاقتصادي المتردي للمدنيين لجذبهم للتشيع من خلال تقديم بطاقات شهرية لكل أسرة تتحول إلى المذهب الشيعي وتقديم مساعدات غذائية عينية دورية.
وتحاول الميليشيات الإيرانية أيضاً استخدام سياسة الترهيب لإجبار المدنيين على الانضمام إلى صفوفها إذا كانوا يرغبون في ضمان بقائهم وتجنب الاعتقال، كما تمارس هذه الميليشيات التمييز ضد المدنيين من غير الشيعة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في دير الزور وسط صمت مطبق من النظام السوري على التحركات الإيرانية.
الحضور المدني الإيراني في الدير الزور
يتفاوت الحضور المدني الإيراني بين مدينة دير الزور، وباقي المدن والقرى الواقعة تحت سيطرة النظام، حجماً وشكلاً ومضموناً، ويتداخل مع الحضور العسكري، خصوصاً في الريف الشرقي لدير الزور، حيث يتركز انتشار ميليشيات الحرس الثوري.
وتعتمد إيران على منظمة جهاد البناء، التي أسست فرعها السوري في العام ٢٠١٣، وافتتحت فرعها في محافظة دير الزور في بداية العام ٢٠١٨، وفي أيلول ٢٠١٧ وبعد أيام قليلة على كسر الحصار على مدينة دير الزور، أرسلت إيران قافلة شاحنات تحمل مساعدات غذائية وطبية وألبسة إليها، عبر الفرع السوري لجهاد البناء، وفي الشهر اللاحق، افتتح مركز طبي يقدم خدماته مجاناً للسكان، وادعت المنظمة بأنها قدمت مساعدات كثيرة للسكان، وجهزت مرافق عامة، وتولت بناء وصيانة الحدائق، والمسابح، والمستوصفات، والمعامل.
الأنشطة والمشاريع الخيرية نُفذت في الواقع عبر ميليشيات الحرس الثوري خصوصاً في الريف الشرقي، ففي مدينة البوكمال، شكل الحرس الثوري لجنة إغاثية توزع مساعدات شبه منتظمة على عائلات عناصره، والفقراء المسجلين في قوائمها، فيما تولت الميليشيات إعادة تأهيل وصيانة مسبح في موقع ترفيهي سابق.
وفي مدينة دير الزور، شارك عناصر من ميليشيات الحرس الثوري في تأهيل حدائق عامة وافتتح الحرس الثوري أربعة مستوصفات مجانية، اثنين في مدينة البوكمال، وواحداً في مدينة الميادين، وآخر في بلدة بقرص. لكن يبدو أن المشاريع التي تنفذها جهاد البناء في دير الزور لا ترقى حتى الآن إلى مشاريعها في محافظات ريف دمشق وحلب وحمص، نظراً ربما إلى الوضع الميداني القلق في تلك المنطقة، التي لم يُحسَم فيها الصراع مع الولايات المتحدة وحليفتها قوات سوريا الديمقراطية.
وبينما تلعب ميليشيات الحرس الثوري دوراً مهماً في الأنشطة الخيرية والاقتصادية في ريف المحافظة، تتخذ الأنشطة المدنية الإيرانية أشكالاً مختلفة في مركز المحافظة ويعد الطرف الفاعل الرئيسي في التدخل الإيراني هناك المركز الثقافي الإيراني، الذي افتتح في المدينة في مطلع العام ٢٠١٨، وباشر منذ تأسيسه برعاية أنشطة مشتركة مع المحافظة، وحزب البعث، والمؤسسات الحكومية، والنقابات.
كما نظم المركز الثقافي فعاليات مشتركة مع منظمات المجتمع المدني، مثل جمعية النهضة النسائية والفرع المحلي لمنظمة بصمة شباب سوريا وأعلن المركز أيضاً عن منحٍ دراسية في جامعات إيران، وقدم مكافآت مالية شهرية للطلاب المتفوقين في المرحلة الإعدادية، كما شارك في تنظيم أنشطة وفعاليات أقامتها مراكز ومنظمات مدعومة من إيران.
معاهد تعليمية وحوافز مادية لنشر اللغة الفارسية في دير الزور
تشهد مدينة دير الزور وأريافها بشكل متكرر زيارات لوفود إيرانية رفيعة المستوى بهدف الإشراف على المدارس والمعاهد المُفتتحة في تلك المناطق، ولقاء وجهاء العشائر ومخاتير القرى التي تقع تحت سيطرتهم لتجنيدهم بشكل أو بآخر ضمن المشروع الإيراني الرامي للسيطرة على القطاع التعليمي والذي يعد بمثابة تمهيد لنشر الفكر الشيعي في المحافظة.
أنشأت إيران أواخر تموز من العام الفائت، معهداً تعليمياً يحمل اسم معهد النور الساطع، ويقع بالقرب من المركز الثقافي الإيراني في منطقة الفيلات، بهدف تعليم الأطفال اللغة الفارسية بكادر تعليمي إيراني، وخصص الإيرانيون مبلغاً وقدره 20 ألف ليرة سورية شهرياً لكل طالب يلتزم بالدراسة في عملية واضحة لاستقطاب الطلاب عبر استغلال الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها أبناء تلك المحافظة.
وتتركز مهام المعهد في جمع أكبر عدد من الأطفال والأهالي تحت إشراف المركز الثقافي الإيراني، ليكون بوابة جديدة لتغلغل الميليشيات الإيرانية بين الأهالي المدنيين، ونشر الفكر الشيعي بين صفوف الشبان والأطفال الذين يعانون من ظروف إنسانية صعبة وشتات عقائدي وخصوصاً بعد التجربة التي خاضوها مع تنظيم الدولة و الطامات التي خلفها التنظيم على أهالي المحافظة.
كما افتتح الإيرانيون مركزاً ثقافياً إيرانياً في مدينة البوكمال بداية شهر آذار 2020، بحضور مدير المركز الثقافي الإيراني الذي أكد خلال الافتتاح أن إيران مهتمة بمستقبل الأطفال ودراستهم وأنها ستخصص منح تعليمية للمتفوقين للدراسة في طهران وبعد انتهاء الحفل تم توزيع الهدايا والألعاب على الأطفال كتب عليها قربان حسين في إشارة واضحة لنشر التشيع والعبارات الشيعية في صفوف الأطفال.
ويعتبر عامر الحسين المنحدر من بلدة حطلة الشيعية في ريف مدينة دير الزور، أحد أبرز أذرع إيران في الشرق السوري، ومن الشخصيات المناصرة لطهران وذات التأثير على أهالي منطقته، وجرى تعيينه من قبل "الحاج صادق الإيراني" والذي كان رئيساً للمركز الثقافي في المنطقة الشرقية، قبل أن تتم ترقيته وإرساله إلى دمشق ووضع الحاج حسين خلفاً له في المركز الثقافي.
لعب عامر دوراً كبيرا في استقطاب الأطفال الصغار من أهالي الريف بقصد تشييعهم عن طريق الإغراء بالهدايا والمعونات، إضافة لعمله على ربط المركز بالدوائر والكليات والمعاهد والمدارس بدير الزور، وإنشاء علاقة وطيدة بين المركز الثقافي والمجتمع المدني.
يشرف الحسين أيضاً على نشاطات عدة، مثل كشافة المهدي التابعة لحزب الله، والتي تهدف لتشييع وتجنيد أكبر عدد من أطفال ومراهقي المحافظة ، إضافة إلى افتتاحه روضة براعم الحبيب المصطفى، ويتمتع بعلاقة جيدة مع " الحاج مهدي" المسؤول الإيراني الأول في المنطقة الشرقية، وعلاقته الجيدة كذلك بـ”حج جواد”، مسؤول حزب الله، والمعمم نوري البلعط وياسين معيوف وحسين الرجا أحد أهم الرجال العاملين في نشر التشيع في دير الزور وريفها.
العوائق المعرقلة للسياسة الإيرانية في دير الزور
يواجه الدور الإيراني في المنطقة عموماً، ومحافظة دير الزور خصوصاً، عوائق متعددة تحد من تأثيراته بدرجات متفاوتة، إلا أن الإيرانيين لعلمهم بعدم قدرتهم على إزالة هذه العوائق، عملوا على التكيف معها على المدى الطويل، بتطبيق بعض الاستراتيجيات المتعلقة بالعائق الفكري.
التباين الطائفي شرقي سوريا لعب دوراً رئيسياً في الحد من تأثيرات إيران في دورها، بالمجتمعات المحلية في محافظة دير الزور، التي يشكل العرب السنة أغلبية سكانها الساحقة، فعلى مدى ثلاثة عقود قبل الثورة كان الإعراض عن دعوات التشيع التي رعتها إيران هو الموقف السائد، الذي يؤكده العدد الضئيل للذين اعتنقوا المذهب الشيعي منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، وحتى العام ٢٠١١.
وإن كانت أعداد المتشيعين في المحافظة تزايدت منذ العام ٢٠١٧، إلا أن نسبتهم لا تزال هامشية أمام العدد الإجمالي الحالي للسكان، الذي يقدر بـ ٣٥٠ إلى ٤٠٠ ألف نسمة في منطقة سيطرة النظام، فعلى الرغم من حالة اللامبالاة السائدة والاستسلام لدى المقيمين في هذه المنطقة إزاء الدور الإيراني بجوانبه المختلفة، تظل ماثلة في الأذهان الغايات الدينية للإيرانيين كهدف رئيسي يتمثل في دفع الناس إلى التشيع، وإغرائهم باعتناق عقيدة جديدة، يرى كثير من السوريين أنها منحرفة عن أصل الدين الإسلامي، وتسعى بالدرجة الأولى للانتقام التاريخي من المكون السني الذي يمثل المذهب السائد في سوريا.
وينعكس موقف السكان بضآلة المشاركة في الفعاليات المُنظمة من قبل ميليشيات الحرس الثوري في المناسبات الدينية الشيعية، أو في الاحتفالات المسائية الترفيهية في شوارع المدن، أما إقبالهم على الاستفادة من مساعدات الإيرانيين وأنشطتهم الخيرية، فيدل على حاجتهم الماسة، لا على تفاعلهم الإيجابي مع الإيرانيين، وهو ما تنبه إليه الإيرانيون.
لا يوجد بشكل علني في مجتمعات دير الزور الواقعة تحت سيطرة النظام، من يعارض الدور الإيراني علناً، لكن شرائح واسعة من السكان اختارت الابتعاد عن اللعب في ذلك الدور ولا سيما من الناحية الدينية، لأنها ترى أن إيران ليست عدواً سياسياً لمعارضي النظام فحسب، بل هي أيضاً عدو ديني لعموم المسلمين السنة، بغض النظر عن موقفهم السياسي.
كما ساهم عودة النشاط الصوفي منذ أواخر العام ٢٠١٨، إلى الواجهة بعد انطفاء شبه تام خلال عهد تنظيم الدولة الذي ناصب العداء لمختلف التيارات المخالفة لنهجه، إلى صرف الكثير من السكان عن تأثيرات الإيرانيين. كذلك خلت من أي تيار داخلها يرحب بدورهم، في المنطقة، بل يؤكد أتباع هذه الطرق أن إحياءها يشكل في حد ذاته خط دفاعٍ عن العقيدة والهوية السنية، في المنطقة.
وعليه فإنه في هذه المرحلة وهذا الجو الطائفي المشحون الذي تعيشه سوريا، لن يكون سهلاً على إيران إيجاد أتباع مخلصين في الوسط السني المغلوب، ما يزيد من اعتمادها على حلفاء المصالح والمقاتلين المأجورين، الذين يفتقرون إلى دوافع مبدئية تعد ضرورة في أي دعوة دينية ناجحة، كما سيساهم إحياء التصوف مجدداً بوصفه ظاهرة دينية، في إعاقة السياسات الإيرانية، ولا سيما في بعدها الديني.
وعلى الجانب الآخر، يشكل بقاء داعش بما تمثله من رفض حاد وباعتبارها جماعة مقاتلة لا تزال قادرة على شن الهجمات من عمق سيطرتها وسط البادية، عائقاً أو تهديداً آخر لهذه السياسات وهذا البقاء يضعف الرهان على إيران بصفتها قوة باقية، كما يضعفه، وبدرجة أكبر بكثير، بقاء القوات الأميركية في الجزء الآخر من دير الزور، و حربها الباردة المتواصلة ضد الإيرانيين، فضلاً عن التنافس الروسي معها، والذي أخذ مؤخراً منحى خطير في التواطؤ مع إسرائيل بغض الطرف عن الغارات التي تستهدف الوجود الإيراني في كافة المحافظات السورية، بالإضافة إلى الهجمات الممنهجة بالطائرات المسيرة، والتي باتت تكبد الإيرانيين خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وتستهدف شحنات الأسلحة والترسانة الصاروخية التي تعمل إيران على جعلها كقوة مفروضة شرقي سوريا بل وحتى في جنوبها.