تواصل هيئة تحرير الشام المُسيطر الفعلي على شمال غرب سوريا، إظهار سياسة الانفتاح، التي بلغت حد التواصل مع الطوائف التي كانت حتى الأمس القريب، ثُلة من "الكفار" و "المرتدين" بحسب عدة فتاوى صادرة عن شرعييها وحتى زعيمها أبو محمد الجولاني.
وفي أحدث ظهور للجولاني، أثار الأخير جدلاً واسعاً، خلال لقائه بعدة وجهاء من الطائفة الدرزية في منطقة جبل السماق بريف إدلب، وسط اتهامات طالته بمحاولة استجداء الغرب ونيل رضاهم، عبر إظهار التسامح واملوادعة مع أبناء الطوائف الأخرى.
وبحسب مصادر وكالة "المجس" زار أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، منطقة جبل السماق بريف إدلب الشمالي الغربي، لتي تقطنها غالبية درزية، وذلك برفقة عدد من قادة الهيئة ومسؤولي حكومة الإنقاذ الذراع المدني التابع لها في شمال سوريا.
وجاءت زيارة الجولاني ومسؤولي الإنقاذ، بحسب ذات المصادر، على خلفية افتتاحهم بئر مياه لتغذية القرى في المنطقة، مشيرةً إلى أن الجولاني التقى خلال الزيارة عدداً من وجهاء قرى المنطقة، ووعدهم بتكثيف الجهود للنهوض بالواقع الخدمي وتحسين المرافق العامة خلال الفترة القادمة.
وبينت المصادر أن الجولاني التقى عدداً من الوجهاء بالقرب من موقع البئر الذي جرى افتتاحه، وأشار خلال رده على مطالبهم، المتعلقة بتطوير الخدمات في المنطقة، أن بئر المياه هو مقدمة لخدمات أوسع ستشمل قطاعات أخرى خلال المرحلة القادمة.
ولفتت أن الجولاني طالب الوجهاء بإعادة المبالغ المالية التي جمعوها من الأهالي لتأمين مياه الشرب، مشدداً على أن تحرير الشام ستتكفل بمصاريف حفر البئر والمصاريف التشغيلية، وسط مطالب أخرى تقدم بها الوجهاء تتمثل في ترميم النقطة الطبية في قرية "تلتيتا" في جبل السماق ورد المظالم التي وقعت على عدد كبير من أبناء المنطقة.
ووعد الجولاني بتنفيذ المطالب الخدمية بالتنسيق مع إدارة المنطقة، كما وعدهم بإعادة أي مظلمة لأي شخص، مع التأكيد بعدم قبول تعرض أي شخص للظلم، وتابع الجولاني: "نحن أهل الحق، ولا نرضى أن يظلم أحد، وستصل الحقوق إلى أبواب بيوتكم".
وأشارت المصادر إلى أن أحد وجهاء المنطقة خاطب الجولاني خلال الاجتماع بالقول "مطلبنا الأساسي والأهم، أن نتساوى مع كل الناس ولا يتم اعتبارنا كطائفة، نحن إسلام، جئنا إلى الإسلام بكل عزة وبكل فخر، ونحن لا نقبل أن نكون غير إسلام، ولا نقبل أن نوصف بأي وصف آخر"، ليرد الجولاني بالقول: "لا إكراه في الدين، نحن لن نجبر أحداً على الدخول في الإسلام".
وشددت المصادر على أن الجولاني حاول خلال اللقاء، التنصل والاعتذار بشكل غير مباشر عن المجزرة التي وقعت في إحدى قرى المنطقة قبل سنوات على يد أحد قادته، حيث قال "الشيء القديم الذي حصل، نحن غير مسؤولين عنه، والشخص الذي ارتكب الجريمة تعرفون ماذا حصل له، نحن بريئون منه".
وأردف الجولاني "هذه الثورة لم تقم على خلاف بين الطوائف والأديان، بل قامت لرد الظلم، نحن مشكلتنا مع النظام فقط، النظام فيه من أهل السنة ناس يقتلون من المدنيين ويتلقون عقاب، فهي ليست ثورة للتمييز بين الطوائف، وأنتم لكم حق هنا، صار لكم آلاف السنين".
انتقادات طالت تحرير الشام
من جانبها نشرت مؤسسة "أمجاد" الإعلامية تسجيلاً مصوراً يظهر جزءاً من اجتماع الجولاني مع وجهاء جبل السماق، ثم اضطرت لحذفه بسبب الجدل والهجوم الحاد الذي شنه السلفيون على تحرير الشام وزعيمها، ثم أعادت نشره مرة أخرى مساء الجمعة، بالتزامن مع حملة مكثفة شنها الإعلام الرديف، برفقة شخصيات نافذة في المجلس الشرعي التابع للهيئة، في تحدٍ واضح للمنتقدين، وترويج ممنهج لسياسة تبديل الجلد التي تنتهجها الهيئة.
فيما قال "أبو العلاء الشامي" وهو أحد المنشقين عن تحرير الشام، في منشور على تلغرام: "يدخل المتحول الجولاني من باب الأقليات متاجراً ومتسولاً على عتبات المخابرات الغربية، وهو باب واسع يشحذ منه المستبدون والطغاة حديثاً لأخذ القبول والرضا الخارجي".
كما هاجمت عدد من الشخصيات السلفية، أبو محمد الجولاني ووصفته بـ "محافظ إدلب الأنيق، متهمةً إياه بتبني الخطاب الوطني ومحاولة الاستثمار والمتاجرة بالأقليات والطوائف والتودد لها لإرضاء الغرب".
بينما ذكر معلقون آخرون بأن العلاقة بين أهالي إدلب والدروز، كانت تتسم منذ عشرات السنين بالتسامح والوحدة، مشيرين إلى أن سيطرة تحرير الشام على إدلب في العام 2014 ، وإعطائها مهلة عام كامل للدروز في ادلب للدخول في الإسلام مهددةً بإخراجهم من ديارهم، المتسبب الرئيسي بإشعال نار الفتنة بين الدروز وأهالي السويداء.
وشددوا على أن الجولاني، عيّن أبو عبد الرحمن التونسي الملقب بسفينة التونسي، أميراً على المنطقة، الذي قام بدوره بإجبار العديد من أهالي المنطقة على إعلان إسلامهم مع تعهدهم بفتح المساجد وإقامة الشعائر وتعليمها لأبنائهم.
وأشاروا إلى أن التونسي ومجموعته ارتكبوا مجزرة مروعة راح ضحيتها أكثر من 20 مدنياً في قرية قلب لوزة بسبب خلاف بين أبناء البلدة وعناصر تحرير الشام على أحد الحواجز وسط البلدة، لافتين إلى أن تحرير الشام لم تحاسب التونسي، حتى مقتله برفقة أبو دجانة الليبي في بلدة كفر دريان بريف إدلب الشمالي، منتصف شهر نيسان 2021، وذلك عندما كانت تحرير الشام تلاحق مجموعة متهمة بارتكاب جريمة قتل فايز الخليف، وزير التعليم العالي في حكومة الانقاذ التابعة لها.
فيما قال السلفي المنشق عن "تحرير الشام" أبو يحيى الشامي على تلغرام: "وجهاء جبل السماق يعلنون الإسلام والتمسك به خلال اللقاء بالجولاني، أما هو فيصر على ذكر الطائفية والطوائف، في مشهد تلميع لصورته على حساب الإسلام، مع العلم أن الجولاني هو أول من أدخل فكر تكفير المسلمين، هذا غير جئناكم بالذبح المكررة كثيراً التي نفّرت الكثير من الناس من الثورة، ومنهم مسيحيو إدلب الذين فروا إلى مناطق النظام ودول أخرى، وللمفارقة إن تحرير الشام التي أذعرتهم واستولت على أملاكهم تحاول اليوم الظهور بمظهر التسامح ودعوتهم إلى العودة".
الدروز في إدلب
يقطنون منطقة جبل السماق بريف إدلب الشمالي الغربي، ويبلغ عدد قرى الموحدين الدروز في المنطقة 18 قرية، أما عدد السكان الأصليين فيصل إلى 20 ألف نسمة موزعين على قرى كفتين وبيرة كفتين ومعارة الإخوان وكفر بني وعرشين وبنابل وقلب لوزة وبشندلنت وبشندلايا وتلتيتا وكفر مارس وحلة والدوير وعلاتا وعَبريتا وجَدعين وكوكو وكفركيلا، وقد غادر قسم كبير منهم المنطقة إلى مناطق سيطرة النظام.
شهدت العلاقة بين تحرير الشام ودروز المنطقة، تحولات كبيرة، حيث بدت عداوة تحرير الشام للطائفة منذ سيطرتها الفعلية على مدينة إدلب، وارتكاب أحد قيادييها مجزرة بالمدنيين في قرية قلب اللوز، ومع انتهاج تحرير الشام سياسة مغايرة لفكرها القديم، بدأت العلاقة بين الطرفين تتحسن بشكل حذر، وذلك بعد تأسيس دروز إدلب لعدد من المجالس المحلية، اندمجت لاحقاً في مجلس موحد برعاية وإشراف حكومة الإنقاذ.
ومنذ بداية العام 2021، أبدت هيئة تحرير الشام اهتماماً أكبر بالأقليات في محافظة إدلب وذلك بالتزامن مع سياسة الانفتاح التي اتبعتها ومحاولة الظهور بمظهر التنظيم المحلي المعتدل، بعد تخليها الكامل عن فكرة الجهاد العالمي، والحكم الإسلامي المتشدد.
محاولات سابقة لكسب ود المسيحيين
وليست المرة الأولى التي تقوم فيها هيئة تحرير الشام، بمحاولات كسب ود الطوائف والأقليات في محافظة إدلب، حيث سبق وأن شنت برفقة حكومة الإنقاذ التابعة لها، حملة إخلاء للمهاجرين القاطنين في أحياء وسط المدينة، كان يسكنها مسيحيو إدلب قبل أن يغادروها في العام 2015 أثناء انسحاب قوات النظام أمام تقدم فصائل المعارضة السورية إلى المدينة وثم السيطرة عليها.
وبحسب تقرير سابق لـ"المجس" فإن عمليات الإخلاء تقصدت المهاجرين وهدفت لإبعادهم عن أملاك المسيحيين والأهالي في مدينة إدلب، وذلك على الرغم من تأكيد الهيئة في بيانٍ سابق في شباط الفائت، أن الحملة "لا تستهدف المهاجرين فقط بل وتشمل أبناء البلد، ولا تركز على جنسية معينة".
وبررت تحرير الشام خطوتها حينها، بأن القسم الأكبر من المنازل هي "ملكية عامة" بحسب وصفها، والقسم الآخر يطالب مالكوه باستعادته، مبينةً أن بعض المنازل اتخذها المجرمون كملجأ لهم لتنفيذ عملياتهم الإجرامية، وعليه كان لا بد من إخلاء المنازل، مشيرةً إلى أنها ستعمل على تأمين بديل سكني للعائلات الفقيرة التي تم إخلاؤه.
وبحسب التقرير فإن محاولات إخلاء كامل منازل مسيحيي مدينة إدلب واستعادة أملاكهم وعقاراتهم في وسط المدينة ماهي إلا تمهيد متعمد من الهيئة بُغية إعادة فتح كنيسة مريم العذراء التي أغلقت أبوابها منذ العام 2015 بعد دخول المعارضة إلى مدينة إدلب.
ونقل التقرير عن عدة مصادر قولها، " من المرجح أن تسمح تحرير الشام بعودة المسيحيين إلى إدلب"، مشيرةً إلى وجود تسريبات تداولها سلفيون مناهضون للهيئة على مواقع التواصل الاجتماعي، تُفيد بأن الهيئة تسعى عبر وسطاء محليين للتواصل مع مسيحيي إدلب المقيمين في مناطق النظام وخارج سوريا من أجل عودتهم إلى منازلهم، مقابل التعهد لهم بضمان حمايتهم وحرية ممارسة شعائرهم الدينية.
وبحسب مصدر منشق عن هيئة تحرير الشام، فإن تحرير الشام تركز على إخلاء ممتلكات الكنيسة ومساكن رعاياها في إدلب، وذلك استعداداً لإعادة فتح الكنيسة التي تقع وسط المدينة، وذلك بالتزامن مع وساطات محلية حثيثة لإقناع العديد من رعايا الكنيسة بالعودة لإدلب، ووعود بإعطائهم الضمانات الكاملة بعدم التعرض لهم واعطائهم التسهيلات اللازمة من أجل ذلك.
وهو الأمر الذي أكده الشرعي المنشق عن تحرير الشام طلحة المسير الملقب بـ "أبو شعيب المصري" وذلك عبر منشور على موقع تلغرام قال فيه "يقوم الجولاني حاليا بتهيئة إدلب لافتتاح كنيسة بها، ويعمل على إغراء عدد من الأسر النصرانية التي تعيش خارج المناطق المحررة لتأتي للسكن في إدلب، في المقابل يقوم بطرد المهاجرين، وإغلاق المعاهد الشرعية".
وبحسب إحصائيات رسمية فإن إدلب كانت تحوي ما بين 2-3 آلاف سوري مسيحي قُبيل السيطرة الكاملة عليها من قبل الفصائل الجهادية والمعارضة عام 2015، ولم يتبقى منهم سوى شخص واحد في الثمانين من عمره ما يزال يعيش في منزله، أما في ريف محافظة إدلب فتركز انتشار المسيحيين في مدينة جسر الشغور وقرى الجديدة واليعقوبية والقنية والغسانية وحلوز، وكان عددهم لا يتجاوز ال10 آلاف شخص في هذه المناطق، بقي منهم الآن حوالي 200 شخص فقط، وقد حصلوا على هامش من الحرية في ممارسة شعائرهم خلال العامين الماضيين في كنيسة واحدة من بين 10 كنائس سمحت تحرير الشام بافتتاحها، وتم تداول صور لاحتفالاتهم خلال العامين 2020 و2021.